منذ وقع الانقلاب على الشرعية في قطر في تسعينيات القرن الماضي، والجدل يدور حول طبيعة السياسات التي يتبعها نظام الدوحة، ورغم حيرة البعض حول ما إذا كان لهذا النظام جدول أعماله الخاص أم أنه منفذ لمشروعات الآخرين، فسرعان ما اتضح أن الاحتمال الثاني هو الأكيد، ولا يمنع هذا من استفادة النظام مما يجري. وفي البدء كان البعض يرى في دور «الوساطات» في الصراعات الدائرة في الوطن العربي سمة إيجابية للسياسة الخارجية القطرية. لكن التطورات اللاحقة أوضحت كيف كان هذا الدور يوظف لصالح سياسات النظام وأولوياته، وفي مرحلة لاحقة زال الغموض تماماً مع بدء السياسات المزعزعة للاستقرار في الدول العربية، وقدم ما سُمي «الربيع العربي» فرصة ذهبية للنظام عندما بدا أن التيارات التي تنسب نفسها للإسلام قد انفردت بالحكم أو أصبحت صاحبة تأثير فيه أو في الصراعات التي أعقبت الانتفاضات الشعبية، ولم يدخر النظام القطري وسعاً في بيان تماهيه مع هذه التيارات ودعمه لها بكل السبل. ولهذا مثّلت بداية انحسارها في 2013 بالضربة القاصمة التي وجهت لها في مصر، وما تلا ذلك في دول أخرى، نكسةً هائلة لنظام الحمدين، صعّد بعدها سياساته التخريبية حتى وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار في 2017 عندما نفد صبر «الرباعي العربي» بعد محاولات عديدة للهداية، فقطعت الدول الأربع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام القطري وفشلت كافة جهود رأب الصدع، عربياً ودولياً، بعد أن زاد انكشاف سياسات النظام.
وكانت ليبيا بين ضحايا هذه السياسة، حيث انحاز النظام القطري، كما هو متوقع، إلى قوى «الإسلام السياسي» التي مارست مليشياتها الإرهاب وغيبت الدولة الليبية نتيجة سطوتها واعتراضها مسار أي محاولة لاستعادة الدولة لا تكون صاحبة السطوة فيها، وتورط النظام القطري وحليفته تركيا في الدعم العسكري لهذه المليشيات وافتضح أمر شحنات الأسلحة التي كانت تُرسَل لها وضباط المخابرات الداعمين لها غير مرة، وعندما بدأت العملية الأخيرة التي نفذها الجيش الليبي لتحرير طرابلس من المليشيات الإرهابية، امتداداً لدوره في محاولة استعادة الدولة الليبية، وأظهرت القوى الفاعلة في الساحتين العربية والدولية مستوى رفيعاً من الشعور بالمسؤولية، بدا واضحاً في التأكيد على أولوية الحل السياسي دون أن يعني ذلك السماح لفصائل الإرهاب بالاستمرار في فرض إرادتها على الدولة الليبية، لذلك لوحظ أنه رغم تأكيد هذه القوى على أولوية الحل السياسي وضرورته وأهمية تجنب التصعيد، إلا أن أياً منها لم يصل إلى درجة إدانة العمل الذي يقوم به الجيش الليبي باعتبار أنه أنه يصب في النهاية في مسار تصفية الإرهاب. وحتى الولايات المتحدة التي كان وزير خارجيتها قد أعلن اعتراض إدارته على العمل، سرعان ما اتصل رئيسها هاتفياً بقائد الجيش الوطني الليبي ونوه بالدور الذي يقوم به في مكافحة الإرهاب.
وكالعادة غرد النظام القطري خارج السربين العربي والدولي، فانفرد بموقف الإدانة لهذا «التصعيد العسكري الخطير»، كما ورد على لسان المتحدثة باسم الخارجية القطرية، على أساس الزعم بأنه يأتي في ظل «حدوث نوع من الانفراج السياسي في المسار السلمي وفي مسار الحوار الوطني في ليبيا تحت المظلة الأممية». والواقع أن هذا الادعاء يتناقض مع تجمد المسار السياسي لأشهر وأعوام مع استمرار هيمنة المليشيات الإرهابية في الغرب الليبي حتى بعد عقد «اتفاق الصخيرات» وتكوين ما يُسمى «حكومة الوفاق الوطني»، وهي الحكومة الخاضعة للأسف بشهادة الشهود -وآخرهم نائب رئيس المجلس الرئاسي الذي استقال مؤخراً- للمليشيات الإرهابية. أما القول بأن عملية الجيش الليبي في طرابلس تنذر بإعادة الفوضى للغرب الليبي، فهو استخفاف بالغ بالعقول، فلم يعرف الغرب الليبي الفوضى إلا على أيدي تلك المليشيات التي يستميت النظام القطري في دعمها.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد